خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 6 من جمادى الآخرة 1441هـ - الموافق 31 / 1 / 2020م
أَدَبُ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ طَلَبَ الْعِلْمِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ فَرْضًا مُحَتَّمًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ إِقْرَارًا بِهِ وَتَوْحِيدًا، وَكَفَى بِهِ إِلَهًا عَظِيمًا مُعَظَّمًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَكْرِمْ بِهِ مُعَلِّمًا وَأَنْعِمْ بِهِ مُعَلَّمًا!، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ الكُرَمَا، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا مُكَرَّمًا.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ؛ فَإِنَّ تَقْوَى اللهِ أَكْرَمُ مَا أَسْرَرْتُمْ، وَأَجْمَلُ مَا أَظَهَرْتُمْ، وَأَفْضَلُ مَا ادَّخَرْتُمْ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ خَلَقَكُمْ لِتَعْبُدُوهُ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لِتَشْكُرُوهُ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ( [الحديد:28].
أَيُّهَا الْـمُسْلِمُونَ:
إِنَّ مِنَ الشَّرَفِ الْعَظِيمِ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَى نَبِيِّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَأْمُرُ بِالْقِرَاءَةِ وَتَحُثُّ عَلَيْهَا، وَتُنَوِّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعِلْمِ وَتُشِيرُ إِلَيْهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ( [العلق:1-5]. وَأَقْسَمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْقَلَمِ الَّذِي تُكْتَبُ بِهِ الْعُلُومُ، وَيُسْطَرُ بِهِ مِنَ الْمَنْثُورِ وَالْمَنْظُومِ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ مِنْ مُقْسِمٍ: ) ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ( [القلم:1]. بَلْ بَلَغَ مِنْ شَأْنِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَبَيَانِ عَظِيمِ مَكَانَتِهِ وَفَضْلِهِ؛ أَنْ قَرَنَ اللهُ شَهَادَتَهُ بِشَهَادَةِ الْمَلَائِكَةِ وَأَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَجَلِّ مَشْهُودٍ عَلَيْهِ، وَهُوَ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى وَقِيَامُهُ بِالْعَدْلِ فِي سَمَوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، )شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( [آل عمران:18]. وَقَدْ أَمَرَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِزَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ فَقَالَ: ) وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا( [طه:114]؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقَلُوبِ وَمَصَابِيحُ الْأَبْصَارِ، وَطَرِيقٌ إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبِيلٌ إِلَى التَّقَدُّمِ وَالِازْدِهَارِ.
فَمَا مِنْ مِلَّةٍ مِنَ الْمِلَلِ وَلَا نِحْلَةٍ مِنَ النِّحَلِ سَاوَتِ الْإِسْلَامَ أَوْ قَارَبَتْهُ فِي تَعْظِيمِ الْعِلْمِ وَرَفْعِ مَنْزِلَتِهِ، وَلَا فِي تَكْرِيمِهِ وَالْإِشَادَةِ بِفَضْلِهِ وَمَكَانَتِهِ، يَتَجَلَّى ذَلِكَ: فِي إِيجَابِهِ عَلَى كُلِّ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدِّهِ عِبَادَةً وَقُرْبَةً لِرَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» [أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
وَإِذَا كَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ رَفَعَ شَأْنَ الْعِلْمِ بَيْنَ الْعَالَمِينَ ؛ فَقَدْ أَعْلَى قَدْرَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، فَبَلَّغَهُمْ فِي الدُّنْيَا مَرَاتِبَ الشُّرَفَاءِ الْأَخْيَارِ، وَبَوَّأَهُمْ فِي الْآخِرَةِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَمَنَازِلَ الْأَبْرَارِ، قَالَ رَبُّنَا جَلَّ جَلَالُهُ: ) يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ( [المجادلة:11]، وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَرَّثُوا الْعِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. فَهَنِيئًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ مُعَلِّمِينَ وَمُتَعَلِّمِينَ.
عِبَادَ اللهِ:
وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ وَأَهْلُهُ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فِي الْإِسْلَامِ ؛ فَإِنَّ مَسْؤُولِيَّةَ الْمُعَلِّمِ مَسْؤُولِيَّةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْأَنَامِ، وَهُوَ يَتَحَمَّلُ أَمَانَةً جِدَّ عَظِيمَةٍ، وَيَحْمِلُ رِسَالَةً خَطِيرَةً وَجَسِيمَةً؛ إِذْ عَلَى يَدَيْهِ تُـنَشَّأُ الْأَجْيَالُ، وَبِعِلْمِهِ وَسُلُوكِهِ تُرَبَّى الرِّجَالُ، وَفِي مَيْدَانِهِ تُصْنَعُ الْأَبْطَالُ، وَبِجِدِّهِ وَإِخْلَاصِهِ يَبْرُزُ الْمُجِدُّونَ وَالْمُتَمَيِّزُونَ، وَبِإحْسَانِهِ وَإِتْقَانِهِ يَكْثُرُ الْمُبْدِعُونَ وَالْمُتَفَوِّقُونَ، فَمَكَانَتُهُ لَا تُدَانِيهَا مَكَانَةٌ، وَأَمَانَتُهُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ كَمِثْلِهَا أَمَانَةٌ، فَحَرِيٌّ بِالْمُعَلِّمِينَ الَّذِينَ شُرِّفُوا بِتِلْكَ الْمَكَانَةِ الْعَظِيمَةِ ؛ أَنْ يَقُومُوا بِأَعْبَاءِ الْأَمَانَةِ الْجَسِيمَةِ.
وَلْنَعْلَمْ- أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ – أَنَّ التَّعْلِيمَ لَا تُجْنَى ثَمَرَتُهُ، وَلَا تُنَالُ بَرَكَتُهُ؛ مَا لَمْ يَقُمْ أَهْلُهُ مِنَ الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُتَعَلِّمِينَ بِوَاجِبَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ، وَيَتَحَلَّوْا بِآدَابِهِ الْمَرْعِيَّةِ، أَلَا وَإِنَّ أَوْجَبَ الْوَاجِبَاتِ عَلَى الْمُعَلِّمِينَ وَالْمُعَلِّمَاتِ: أَنْ يُخْلِصُوا فِي تَعْلِيمِهِمْ وَيَنْوُوا بِهِ نَفْعَ النَّاسِ وَرَفْعَ غِشَاوَةِ الْجَهْلِ عَنْهُمْ ؛ لِيَنَالُوا الْأَجْرَ وَالثَّوَابَ وَيَكُونُوا مِنَ الفَائِزِينَ يَوْمَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ الْأَعْمَالِ مَبْنَاهَا عَلَى الْإِخْلَاصِ، وَعَلَى قَدْرِ الْإِخْلَاصِ وَالْمُتَابَعَةِ وَالْإِتْقَانِ يَأْتِي الْفَضْلُ مِنْ رَبِّنَا الرَّحْمَنِ ؛ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: )فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ( [الكهف:110]، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ]، وَعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: «مَنْ طَلَبَ العِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ العُلَمَاءَ، أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ، أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ: أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَلَا يَجْتَمِعُ الْإِخْلَاصُ فِي الْقَلْبِ لِلْخَالِقِ وَمَحَبَّةُ الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ مِنَ الْمَخْلُوقِ؛ إِلَّا كَمَا يَجْتَمِعُ الْمَاءُ وَالنَّارُ.
وَمِنَ الْأَهَمِّيَّةِ بِمَكَانٍ: أَنْ يُحْسِنَ الْمُعَلِّمُونَ فِي تَعْلِيمِهِمْ وَيُتْقِنُوهُ، وَيَقُومُوا بِمَا عَلَيْهِمْ فِيهِ مِنَ الصِّدْقِ وَالْجِدِّ وَيُؤَدُّوهُ ؛ لِأَنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَبْدِ إِذَا عَلِمَ شَيْئًا أَنْ يُحْسِنَهُ، وَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يَبْذُلَ فِيهِ جُهْدَهُ وَيُتْقِنَهُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: »إِنَّ اللهَ تَعَالَى يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ« [أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ:
وَيَنْبَغِي عَلَى الْمُعَلِّمِ أَنْ يَكُونَ قُدْوَةً حَسَنَةً لِطَلَبَتِهِ بِالْأَخْلَاقِ الْكَرِيمَةِ وَالْآدَابِ الْقَوِيمَةِ، فَلَا قِيمَةَ كَبِيرَةً لِلْعِلْمِ الَّذِي يُعَلِّمُهُ لَهُمْ مَا لَمْ يُتَوِّجْهُ بِالْأَخْلَاقِ الْأَصِيلَةِ، وَيُزَيِّنْهُ بِالْمَكَارِمِ وَالْآدَابِ النَّبِيلَةِ، وَأَنْ يُعَامِلَهُمْ بِالرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَالصَّبْرِ وَالْحِكْمَةِ؛ لِيَتَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَالْأَدَبَ، وَيَتَجَمَّلُوا بِهِمَا فِي الطَّلَبِ، وَهَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يُحَصِّلُهُ الطُّلَّابُ مِنْ مُعَلِّمِيهِمْ، وَمِنْ أَكْرَمِ مَا يَسْتَفِيدُونَهُ مِنْ مُؤَدِّبِيهِمْ، وَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمُعَلِّمُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الَّذِينَ يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ أَهْلُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ كَمَا فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الخَيْرَ»: [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ]. فَإِنْ عَمِلَ الْمُعَلِّمُ بِمَا عَلِمَ؛ كَانَ قُدْوَةً صَالِحَةً عَلَى مَدَى الْعُصُورِ؛ وَإِلَّا كَانَ عَالَةً عَلَى الْعِلْمِ وَسَبَبًا لِلْعُزُوفِ وَالنُّفُورِ، وَلِلَّهِ دَرُّ الْقَائِلِ:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّـمُ غَـيْـرَهُ هَلَّا لِنَفْسِكَ كَانَ ذَا التَّعْلِيـــمُ
فَابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا فَإِذَا انْتَهَيْتَ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
فَهُنَاكَ يُقْبَلُ مَا تَقُولُ وَيُقْتَدَى بِالْقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيــــمُ
لَا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيـمُ
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْوَحْيَيْنِ، وَنَفَعَنَا بِهَدْيِ سَيِّدِ الثَّقَلَيْنِ، وَنَفَعَنَا بِالْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَأَكْرَمَنَا بِثَمَرَاتِهِ وَفَضْلِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى نِعَمِهِ كَمَا أَمَرَكُمْ: يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ كَمَا وَعَدَكُمْ.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
هَا هِيَ الْمَدَارِسُ وَالْمَعَاهِدُ وَالْكُلِّيَّاتُ سَتُفْتَحُ أَبْوَابُهَا وَيَعُودُ إِلَيْهَا طُلَّابُهَا؛ لِيُتِمُّوا مِنْهَاجَ فَصْلٍ جَدِيدٍ، فَنَسْأَلُ اللهَ لَهُمُ التَّوْفِيقَ وَالتَّسْدِيدَ، وَالْعِلْمَ النَّافِعَ وَالْعَمَلَ الرَّشِيدَ.
أَلَا وَإِنَّ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ وَاجِبَاتٍ لَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا، وَآدَابًا فِي الطَّلَبِ يَحْسُنُ بِهِ مُرَاعَاتُهَا، وَإِنَّ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى طَالِبِ الْعِلْمِ: الْإِخْلَاصَ فِي الطَّلَبِ، وَاِبْتِغَاءَ الثَّمَرَةِ الْحَقِيقِيَّةِ مِنْ وَرَاءِ الْعِلْمِ؛ فَثَمَرَةُ الْعِلْمِ: أَنْ يَكُونَ نَافِعًا لِصَاحِبِهِ وَلِدِينِهِ وَأُمَّتِهِ، وَمِنْ بَرَكَتِهِ عَلَيْهِ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِ ؛ قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: (هَتَفَ الْعِلْمُ بِالْعَمَلِ، فَإِنْ أَجَابَهُ وَإِلَّا ارْتَحَلَ).
وَقَدْ كَانَ نَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ اللهَ الْعِلْمَ النَّافِعَ وَيَسْتَعِيذُ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ؛ فَعَنْ جَابِـرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: »اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ« [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَحَسَّنَهُ الْهَيْثَمِيُّ]. بَلْ كَانَ يَسْأَلُهُ ذَلِكَ كُلَّ صَبَاحٍ؛ فَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ حِينَ يُسَلِّمُ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» [أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ]. وَيَنْبَغِي عَلَى الطَّالِبِ أَنْ يَلْزَمَ الْجِدَّ وَالْمُثَابَرَةَ، وَأَنْ يَتَحَلَّى بِالصَّبْرِ وَالْمُصَابَرَةِ، وَأَنْ تَكُونَ رِجْلُهُ فِي الثَّرَى وَهِمَّتُهُ فِي الثُّرَيَّا، لَا يَهْدَأُ لَهُ بَالٌ وَلَا يَقِرُّ لَهُ قَرَارٌ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُعَانِقَ النَّجَاحَ وَيَظْفَرَ بِالتَّفَوُّقِ؛ فَمَنْ صَبَـرَ ظَفِرَ، وَمَنْ جَدَّ وَجَدَ:
دَبَبْتُ لِلْمَجْدِ وَالسَّاعُونَ قَدْ بَلَغُوا جَهْدَ النُّفُوسِ وَأَلْقَوْا دُونَهُ الأُزُرَا
فَكَابَرُوا المَجْدَ حَتَّى مَلَّ أَكْثَرُهُمْ وَعَانَقَ المَجْدَ مَنْ أَوْفَى وَمَنْ صَبَرَا
لَا تَحْسَبِ المَجْدَ تَمْرًا أَنْتَ آكِلُهُ لَنْ تَبْلُغَ المَجْدَ حتَّى تَلْعَقَ الصَّبِرَا
وَمِنْ أَجَلِّ آدَابِ طَالِبِ الْعِلْمِ فِي مَسِيرَتِهِ، وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ تَحْصِيلِ الْعِلْمِ وَبَرَكَتِهِ: أَنْ يَتَوَاضَعَ الطَّالِبُ لِمُعَلِّمِهِ، وَيَتَأَدَّبَ مَعَهُ غَايَةَ التَّأَدُّبِ كَمَا يَتَأَدَّبُ لِوَالِدِهِ، وَأَنْ يَتَعَامَلَ مَعَ زُمَلَائِهِ بِالْوُدِّ وَاللِّينِ وَالِاحْتِرَامِ، وَأَنْ يُعَاشِرَ بِالْأَخْلَاقِ الرَّاقِيَةِ سَائِرَ الْأَنَامِ، عِنْدَهَا سَيَنْتَفِعُ بِعِلْمِهِ لِنَفْسِهِ وَلِأَهْلِهِ وَلِلنَّاسِ جَمِيعًا، فَذَلِكَ مِنْ أَسْبَابِ التَّوْفِيقِ وَالتَّسْدِيدِ، وَمِنْ سُبُلِ نَيْلِ الْمَجْدِ التَّلِيدِ. عَنِ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى قَالَ: (صَلَّى زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى جِنَازَةٍ، ثُمَّ قُرِّبَتْ لَهُ بَغْلَةٌ لِيَرْكَبَهَا، فَجَاءَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَخَذَ بِرِكَابِهِ، فَقَالَ لَهُ زَيْدٌ: خَلِّ عَنْهُ يَا ابْنَ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعُلَمَاءِ وَالْكُبَـرَاءِ) [رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ].
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الطَّيِّبِينَ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الأَرْبَعَةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْحُنَفَاءِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا، وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا، اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ وَوُلَاةَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَأَلْبِسْهُمْ لِبَاسَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنًّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
لجنة إعداد الخطبة النموذجية لصلاة الجمعة